لم تكن مصادفة أن اختار الشعب المصري يوم عيد الشرطة في الخامس والعشرين من يناير لبدء الثورة، فعندما خرج المتظاهرون إلى الشوارع كانوا يطالبون بالحرية ووقف وحشية الشرطة وتفكيك جهاز مباحث أمن الدولة المعروف بتجاوزاته في استخدام القوة والتعذيب.
ومع أن مصر شهدت الكثير من التغير بعد الثورة فإن الوعود التي قطعها المجلس العسكري والحكومة الانتقالية بإصلاح وإعادة هيكلة جهاز الشرطة وتغيير مهمته ومنظومة قيمه لم يتم الوفاء بها ولذلك يشعر كثير من المصريين بعدم الأمان ولا تزال المطالب بإصلاح جهاز الشرطة على رأس أولويات المطالب الشعبية بعد عام من الثورة.
المشاكل والتحديات
بعد عقود من الممارسات الوحشية للشرطة المصرية والسياسات التي حولت أجهزة الأمن الداخلي في مصر إلى جهاز أمني يخدم نظام الحكم الاستبدادي بدلا من أن يكون في خدمة الشعب، يصر المصريون على ضرورة القيام بإصلاح شامل لقوانين الشرطة ولوائحها وإدخال تغييرات جذرية على مهمة الشرطة وأساليب تدريب أفرادها. غير أن خبراء الأمن يرون أن اتخاذ الخطوات الضرورية لإصلاح الشرطة المصرية لن يكون مهمة سهلة.
ويقول الدكتور إيهاب يوسف الخبير الأمني والأمين العام لجمعية الشرطة والشعب لمصر والتي تعمل على بناء الثقة بين الشعب والشرطة من أجل مصر إن هناك عددا من المشاكل التي تعوق مسيرة إصلاح الشرطة في مصر وهي:
أولا: أن جهاز الشرطة تم تصميمه لخدمة أمن نظام الحكم وليس أمن المواطنين مما جعل أفراد الشرطة يركزون على كيفية السيطرة على الجماهير ولو اقتضى الأمر استخدام القمع والتعذيب خاصة وأنه لا توجد محاسبة لهم على ممارساتهم.
ثانيا: وجود تفاوت هائل في الأجور بين كبار ضباط الشرطة وباقي أفراد جهاز الشرطة مما أسهم في شيوع الفساد بينهم.
ثالثا: عدم توفر الإرادة السياسية اللازمة للشروع في إصلاح جهاز الشرطة أدي إلى عدم حدوث تغيير في قيادات الشرطة التي كانت مسئولة عن الانتهاكات التي وقعت في الماضي.
رابعا: الافتقار إلى الخبرات المهنية اللازمة لرسم توجه المسار الديمقراطي الجديد للشرطة.
ويعتقد الكولونيل توماس ديمسي الخبير الأمني ورئيس مركز الدراسات الأمنية بكلية الحرب الأمريكية أن هناك عدة شروط يجب توافرها من أجل القيام بأي عملية إصلاح للشرطة في مصر وهي:
أولا: ضرورة الانتقال إلى حكم ديمقراطي فعال فبدون ذلك لا يمكن تطوير جهاز الشرطة ليصبح مستجيبا لاحتياجات المواطنين وليمارس عمله بشكل شرعي.
ثانيا: ضرورة الالتزام بمنهج شامل للإصلاح يتضمن جهاز القضاء والمؤسسات القضائية ومؤسسات تطبيق القانون والسجون والإصلاحيات.
ثالثا: ضرورة وجود إرادة سياسية واستراتيجية واضحة للتعامل مع أفراد الشرطة الذين تورطوا في انتهاكات حقوق الإنسان في الماضي.
أما السيد جيفري موك المسئول المختص بشئون مصر في منظمة العفو الدولية فيرى أن أكبر التحديات التي تواجه عملية إصلاح جهاز الشرطة في مصر هو أن الإطار القانوني لنظام الرئيس السابق حسني مبارك والذي يمكن من خلاله لجهاز الأمن أن يخرس أصوات المجتمع المدني لا زال قائما، كما لا يزال العمل بشكل من أشكال قانون الطوارئ ساري المفعول بالإضافة إلى إسناد محاكمة آلاف من المدنيين لمحاكم عسكرية. ولذلك يعتقد السيد موك أن كلا من جهاز الشرطة ككل وأفراد الشرطة العسكرية لا زالوا يعملون في ظل ثقافة القهر والإفلات من المحاسبة.
الخطوات اللازمة لإصلاح الشرطة المصرية
ويعتقد السيد موك أن هناك خارطة طريق واضحة يجب اتباعها للقيام بأي عملية إصلاح حقيقي لأجهزة الأمن المصرية:
أولا: تغيير منظومة القيم التي تنظم عمل تلك الأجهزة من مضايقة المواطنين وقهرهم إلى تقديم الخدمات لهم.
ثانيا: وقف عمليات الاحتجازالسري والاعتقال العشوائي.
ثالثا: إقامة نظام للمحاسبة يتضمن تقديم المسئولين عن انتهاكات الماضي للعدالة وعدم السماح لهم بالاحتفاظ بوظائفهم في أجهزة الأمن.
رابعا: إدماج ممارسات احترام حقوق الإنسان ضمن برامج تدريب أفراد الشرطة على التعامل مع المواطنين.
خامسا: حظر استخدام التعذيب والممارسات الأخرى التي تنتهك حقوق المواطنين.
سادسا: ضمان توفير قائمة علنية بكافة أماكن الاحتجاز ووضعها تحت إشراف جهاز قضائي ينعم باستقلال حقيقي.
أما الدكتور إيهاب يوسف الخبير الأمني المصري فيضيف عدة مقترحات يراها ضرورية لأي إصلاح حقيقي:
أولا: إعادة تدريب ضباط وجنود الشرطة المصرية للقيام بمهام خدمة الشعب وتوفير الأمن للمواطنين مع الالتزام التام بالقواعد الدولية المتعارف عليها لاحترام حقوق الإنسان.
ثانيا: تعليم أفراد جهاز الأمن القدامى والجدد حول دور أجهزة الأمن في المجتمع الديمقراطي مع التركيز بشكل خاص على قواعد محاسبة المخالفين.
ثالثا: إعادة هيكلة وزارة الداخلية المصرية بتقسيمها إلى إدارات مسئولة عن كل من الأمن، وتطبيق القانون، وخدمات المواطنين، والتدريب، مع تحديد واضح لأغراض ومسئوليات كل إدارة.
رابعا: إصلاح الإطار القانوني المنظم لعمل أجهزة الشرطة الذي كان مصمما لخدمة نظام استبدادي.
ولكن الكولونيل ديمسي يعتقد بأنه مالم تنجح مصر في معالجة القضايا الأساسية الخاصة بالتحول إلى ممارسات الحكم الديمقراطي واحترام حقوق الإنسان وسيادة القانون فلن يمكن إصلاح أجهزة الأمن المصرية مهما تم الأخذ بالخطوات المقترحة لإصلاحها. وأكد أن إصلاح جهاز الشرطة المصرية يجب أن يأتي من داخل مصر وسيتطلب إرادة سياسية قوية وتوفير الموارد المالية اللازمة وكذلك الاستعانة بالخبرات الفنية والتدريب المهني اللازم، ونبه الكولونيل ديمسي إلى أن عملية إصلاح أجهزة الأمن غالبا ما تكون صعبة وطويلة الأمد.
الدروس المستفادة من تجارب الدول الأخرى
ويقول الكولونيل ديمسي إن من أفضل التجارب التي يمكن لمصر الاستفادة منها في إصلاح قطاع الأمن تجربة جنوب إفريقيا في أوائل التسعينيات من القرن الماضي عندما مرت بعملية التحول من نظام الفصل العنصري إلى الديمقراطية وأصرت على الحيلولة دون بقاء ضباط الشرطة الذين تورطوا في ممارسات الماضي ضمن جهاز الشرطة الجديد. ومع ذلك بنبه الكولونيل ديمسي إلى أنه مع ثلاثين عاما من الممارسات القمعية للشرطة المصرية واستخدامها للتعذيب فإن على المصريين أن يقرروا من من أفراد الشرطة وقادتها يجب محاسبتهم على ممارسات الماضي ومن يمكن العفو عنهم. ويقر السيد ديمسي بمخاطر طرد عشرات الآلاف من أفراد الشرطة المصرية من الخدمة بعد أن أمضوا سنوات عديدة يستخدمون أسلحتهم ويمارسون العنف ضد المواطنين بالنيابة عن النظام، حيث أن طردهم من الخدمة بهذه الأعداد سيخلق تواترات غير مرغوب بها في المجتمع المصري مالم يتم توفير وظائف لهم تتناسب مع مهاراتهم وتوفر لهم مورد رزق لإعالة عائلاتهم.
وضرب ديمسي مثالا على ذلك من تجربة ليبريا في عام 2003 حينما طورت برنامجا لاستيعاب المقاتلين السابقين في الحرب الأهلية بأعداد ضخمة وتم تدريبهم على العمل في قطاع التشييد والبناء على غرار النموذج الأمريكي في تشغيل المدنيين في البناء في فترة الركود الاقتصادي العظيم في الثلاثينيات.
ويتفق الدكتور إيهاب يوسف مع هذا النموذج الحذر نظرا لأن لجوء بعض الدول الأخرى إلى حل أجهزة أمنها بالكامل وتسريح أفرادها سرعان ما أسفر عن تشكيل ميليشيات مسلحة تعمل ضد النظام الجديد. ويقترح الدكتور إيهاب يوسف الأخذ بتجربة جمهورية التشيك في كسب ثقة المواطنين في الشرطة بعد التحول إلى الديمقراطية من خلال العمل في إطار من الشفافية بلغ حد بناء واجهات أقسام الشرطة من الزجاج ليرى المواطنون ما يجري بداخلها مع تركيب كاميرات تسجل كيفية التعامل مع المواطنين داخل أقسام الشرطة.، ويقترح أيضا الأخذ بتجربة جورجيا التي وفرت بعد خروجها من الاتحاد السوفييتي حوافز في مرتبات أفراد الشرطة أدت إلى كبح جماح الفساد الذي كان منتشرا في جهاز الشرطة.
أما جيفري موك مسئول شئون مصر في منظمة العفو الدولية فيقترح أن تحذو مصر حذو دول أمريكا اللاتينية والدول الإفريقية في التخلص من ثقافة إفلات مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان من أفراد الشرطة من المساءلة والمحاسبة عن أفعالهم. من خلال تشكيل لجان الحقيقة والمحاسبة لمنح ضحايا الانتهاكات الفرصة للشعور بانتصار العدالة وإحقاق الحق.
ويرى أنه يمكن لمصر كذلك الاستفادة من تجربة فنزويلا في عام 2006 حينما جعلت مهمة إصلاح جهاز الشرطة جهدا جماعيا من خلال تشكيل لجنة قومية لتحقيق ذلك الهدف من خلال التشاور مع العاملين في جهاز الشرطة والمجتمعات المحلية واحكام المحافظات والمشرعين والأكاديميين وممثلي منظمات المجتمع المدني بالإضافة إلى خبراء دوليين مختصين بشئون إصلاح أجهزة الأمن قبل أن تشرع الحكومة في تطبيق الإصلاحات.
استطلاع للرأي:
أي من الإجراءات التالية لها الأولوية من وجهة نظرك لإصلاح الشرطة في مصر؟
+ تعليم أفراد الشرطة القدامى والجدد عن الدور الجديد للشرطة في مجتمع ديمقراطي
+إعادة تدريب جنود وضباط الشرطة لكي يقدموا خدماتهم للمواطنين وضمان توفير الأمن العام مع الالتزام الكامل بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان
+ إجراء تحقيقات في انتهاكات الشرطة في الماضي واستبعاد من تثبت إدانتهم من الخدمة في جهاز الشرطة
+ تغيير منظومة القيم التي تعمل الشرطة وفقا لها من السيطرة على المواطنين ومضايقتهم إلى تقديم الخدمات لهم مع وضع نهاية للاعتقالات العشوائية.
Middle East Voices
.نُشرت هذه المقالة في الأصل هنا